أخر الاخبار

يوميات الحب والحرب21 د. خضر محجز

 يوميات الحب والحرب21:


الرَّبَّانِيّ والمثقف قواسم مشتركة:


هذا المقال أساسه طلب صديق مني، بأن أركز على الجوانب الإيجابية فيما يحدث من حولنا.


وبعيداً عن الفحص في النوايا، يجب أن أكتب مقالي، ليس فقط رجاء أن ينفع الناس ـ وهذا محتمل ـ ولكن لأن هذا واجبي الذي أؤديه للنجاة بنفسي من النار، وقد رأيت أهل الكلمة لا يهتمون بالنجاة من النار.


أستفتح مادتي بقوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران/146).


ثم أقول إن شاء الله:


المثقف المستقل، ورجل الدين الرَّبَّانِيّ؛ شخصان مختلفان في مصادر التأثر، متفقان في كثير من الأهداف.


يمكن القول بأنّ كلَّ رجل دين رَبَّانِيٍّ هو مثقف، وليس كلُّ مثقف رجلَ دينٍ رَبَّانِيٍّ. لأن أصل الاختلاف هو مصدر تأثر كل منهما، بقوة الاختلاف بين الثقافة والدين:


فالثقافة فكر ونشاط دنيويان، مصدرهما الدنيا ومصالح أهل الدنيا. أما الدين فمصدره السماء، والهدف توحيد الله بما يصلح الدنيا.


إذن فنقطة الالتقاء بين المثقف ورجل الدين الرَّبَّانِيّ؛ هي مصالح أهل الدنيا. والمقصود: الغالبية الساحقة من أفراد المجتمع.


وهنا بالذات يتضاد موقف الرجلين مع مواقف السلطة الحاكمة، التي هي غالباً ما تمثل شريحة مُتْرَفَةً منتفعة من استغلال الجمهور وخداعه.


وبسبب من هذه المقدمة التعريفية، اسمحوا لي أن أتكلم عن دور الرَّبَّانِيّ، الذي هو مثقف واسع المعرفة، ثاقب الفكر، متدين حق التدين.


الرَّبَّانِيّ في الحقل الاجتماعي الدنيوي يمثل المهمشين والمظلومين والمسحوقين، وينحاز إلى قضاياهم. إنه كما يدعوهم إلى الصلاح الذاتي، يدعو الحاكمين إلى إنصافهم.


دعوة الرَّبَّانِيّ ها هنا مُعْلَنَةٌ صارخةٌ صارمة حادة، تبتغي أن يسمعها المسحوقون فيثوروا، ويسمعها المترفون الحاكمون فيستجيبوا، إن لم يكن بفعل خوفهم من الله، فبسبب خوفهم من ثورة الجائعين المظلومين، التي ينفخ فيها خطاب المثقف الرَّبَّانِيّ.


إن المثقف الحقيقي ورجل الدين الرَّبَّانِيّ، كليهما مُعَدٌّ جيداً لمقاومة القولبة الخداعة، التي يفرضها المتسلطون على أشكال الحياة ومصادر القوت.


إنهما مُعَدّان جيداً لمقاومة الموت المنهجي الذي يفرضه المتحكمون، على كل الأشياء الجميلة المتبقية. 


والأساسي في هذا، نفورُ المثقف الحقيقي ورجل الدين الرَّبَّانِيِّ من الشعارات الكبرى، والأهداف الخداعة التي لا تتحقق، لأنهما يدركان أن كل ذلك إنما تمت صناعته لتخدير الناس عن متطلبات حياتهم اليومية، والاستنامة إلى ما لا يكون.


إن الإدراك الحِسِّي الكاشف، لكلا المثقف والرَّبَّانِيِّ، يحب أن يكون قادراً على نزع الأقنعة، وتحطيم قوالب الرؤية التي تغرقنا بها وسائل الاتصال الحديثة، والخطباء الدينيون المأجورون. 


وبما أن وسائل الاتصال اليوم توجه الدين والفن والفكر، نحو شعبوية تخدم طبقة الحاكمين؛ فعلى كل من المثقف والرَّبَّانِيِّ التركيز على السياسة، لأنها خبز الناس اليومي، الذي لا ينبغي أن يخلطه الحاكم بالوعود التي لا تتحقق.


إن خطيباً شعبوياً يدعو الناس إلى الصبر على ظلم المستغلين والطغاة، انتظاراً للجنة، هو رجلٌ يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، بقوة ما هو كلبٌ يلعق حذاء الحاكمين ذلك المثقف الدنيوي الذي يدعو الناس إلى شد الأحزمة على البطون، لاجتياز مرحلة قادمة، وراء حاكم يستغل كل شيء، ويتاجر بكل شيء، ليلهو أبناؤه في صالات البلياردو الكبرى على حساب المسحوقين، ويقيموا الاحتفالات الصاخبة في كبريات الفنادق دون رقيب ولا سؤال عن مصدر هذا.


ووالله إني لأعجب كيف سكت رجالُ الدين والمثقفون والناس عن هذه النماذج الوقحة في استغلالها، القذرة في شعارها، الدنيئة في أصولها المُنْحَطَّة!


أم لم يعد في هذا المجتمع ـ الذي استُلِبَ مرتين ـ مرة بفعل التدين الكذوب وأخرى بفعل استغلال حفنة من الخونة المرتبطين بالعدو ـ رَبَّانِيٌّ ولا مثقف!


إن السياسة هي معلنة في كل حقل حولنا، ولا يمكن أن يكون هناك مهرب منها إلى ممالك التأمل الصوفي أو الفن والفكر الخالصين.


إن رجال الدين الحقيقيين، والمثقفين العضويين، هم أبناء زمنهم، ولن يكونوا قادرين على مقاومة الرواية الرسمية للطغاة ـ الدينيين والدنيويين ـ إلا بتقديم رواية بديلة تسعى إلى قول الحقيقة، وتقارع السلطة.


إن على الرباني والمثقف أن ينحازا إلى جانب الضعفاء، الذين لا يجدون من يمثلهم ويرفع صوتهم.


ومن هنا نعلم لم قلت يوماً: إن المثقف العضوي والرباني، ليس أيٌّ منهما مهدئاً ولا باني إجماع، بل هما شخصان يراهنان ـ بكل وجودهما ـ على امتلاك حس نقدي لا يقبل بالصيغ السهلة، ولا الأفكار المبتذلة الجاهزة، ولا التأكيدات المتملقة التي تعتذر عن نهب المتسلطين.


باختصار: إن على المثقف والرباني أن يكافحا يقظين لكي لا يتحولا إلى مجرد معارضي سلبيين، في الزوايا الصوفية، أو حلقات الفكر النُّخْبَوِيَّةِ المنعزلة. 


إن عليهما أن يعلنا موقفهما بالصراخ ما أمكن، وعلى نحوٍ نَشِطٍ، ليكون ثمةَ أملٌ للأجيال اللاحقة أن تُغَنّي للجمال.



ولا يُغَنّي الناسُ للجمال إلا بعد الشبع.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-